• شاركي قصتك

    ندا تحديث قبل 3 سنوات 1 الأعضاء · 1 مشاركة
    • ندا

      مشارك
      18 مارس، 2021 الساعة 1:51 م

      أكتب إليكم وأنا لا أنتظر شيئًا، ولا أنتظر ردًا، فقط أريد أن تقرأوا إحساسي، فقد تعجبكم كلماتي وطريقة سردي، ولكني أكتب للتعبير عن كل مايدور في مكنون صدري؛ وعلى هذا، أعدكم أن أكتب كل كلمة هنا بإحساس عميق وصدق شديد.

      بداية سأتحدث عنها كما يقال في الحقيقة ومثلما تشعر بداخلها. فتاة نقية، طيبة، بسيطة، جادة، مُجتهدة، وينظر إليها على أنها انطوائية ومنغلقة، دعوني أقول لكم، هي ليست منغلقة، ولكن لم تُتاح لها فرصة فهم الحياة والتوغل وسط المعاملات البشرية، والحمد الله على ذلك، فهي تحب الانفراد بنفسها، والخلو إلي روحها، ومحاسبة ذاتها، تحب إنجاز مهامها في حينها عن أن تندمج وسط التجمعات البشرية التي تحتاج قدرًا كبيرًا من النفاق والمُجاملة لا تتصف بهما، ذلك لأن فطرتها لا تستطيع مُجارية البشر باختلاف أنواعهم في حوارتهم، فهي لم تؤتي من أفعال البنات شيئًا، فقلبها بريء، وروحها نقية، ولا تحمل بداخلها مكروه لأحد، ترى الناس بعين واحدة، تراهم على طيبتهم، وتتعامل معهم بنية صادقة، حتي وإن تأذيت – وكثيرًا ما تأذيت ووقعت وصمدت – تسامح كل من أذاها، ولا تذكر لهم ما صدر منهم في حقها، وهذا لم يكن ضعف منها، وإنما قوة قد لا يمتلكها الكثيرين، قلبها كأفئدة الطير من شدة رقته يبكي من أقل شيء، ويفرح من أقل شيء، فإذا تأثرت تبكي وتبكي وتبكي، تبكي ظاهريًا قبل أن تبكي داخليًا، تنذرف دموعها، لتُفرغ ما بداخلها من مشاعر سلبية قد تؤثر على روحها الطفولية النقية.

      فتاة تلقائية تفعل ما تشعر به دون أن تفكر في عواقبه، ولاعجب! فمن يمتلك روح مثل روحها هذه سيعاني كثيرًا، سيعاني من جلدها ومحاسبتها وصحوتها وحرصها على التخلص من كل شعور يؤذيها أو يعكر صفوها ويظهر ضعفها.

      هذبها ربها، ووهبها من الصفات الشكلية والخلقية ما لم ينعم به على غيرها، فتاة بملامح مُميزة بريئة، ترى في وجهها نقاء وبراءة قلبها، فتظن أنها تصغر عمرها الحقيقي، نقية، بريئة، خجولة، هادئة، مُطيعة، صريحة، وشديدة الحساسية، لا تجرح أحد، ولا تعرف غير الطريق المستقيم، الأبيض عندها هو أبيض، والأسود هو أسود، لا يوجد وسط بينهما. شديدة التعلق بربها تجاهد نفسها وتحافظ على وردها اليومي من القرآن والأذكار. لا تُجيد الحديث وتتوتر في العلاقات الإنسانية، فقط تعيش في عالمها الداخلي، وتتعامل بفطرتها.

      لم تعش مراحل كثيرة في حياتها، فغابت عنها الكثير من المُكتسبات التي قد تكتسبها الفتاة في كل فترة من فترات حياتها لبناء الشخصية، وفهم الحياة، إلا أنها ضحت بكل ذلك طواعية من أجل أن تحقق حلمها، وقد حققت بفضل الله ما يفوق خيالها.

      أود أن أشارككم ذكرياتي عنها. طفلة صغيرة بملامح أجنبية بعض الشيء، ولدت في بيئة متوسطة العيش، من صلب أب عظيم، ورحم أم صبورة، فمنذ نعومة أظافرها تراهم يكافحان ويضحيان من أجلها هي وأخواتها، يضحيان من أجل أن يوفروا لهما بيت كبير وحياة كريمة، فكانوا يحرمون أنفسهم من ملذات الحياة بكل أشكالها ليحققوا هذا الهدف فقط. لم تكن الصغيرة مثلها مثل بقية الأطفال في سنها، إذ كانت عاقلة رزينة منذ صغرها، كانت لا تحب اللعب، أو ربما كانت تحب اللعب، ولكن خجلها كان يمنعها من أن تبادر باللعب مع الأطفال، فكانت تقف بعيداً وتنظر إليهم خلسة وهم يلعبون، تتوق نفسها إلى اللعب معهم ولكنها خائفة.

      عاشت سنوات وسنوات خائفة، خجولة، لا يعلو صوتها، وربما كان هذا الدافع الأكبر وراء نجاحها. ركزت الفتاة جهودها طوال هذه السنوات وحتى نهاية مرحلة الثانوية العامة على شيئا واحداً فقط لا تفعل غيره -دعني أقول لكم لا تعرف أساساً غيره- ألا وهو المذاكرة. كان ذهنها ينبض بأحلام كثيرة غريبة، لا تعرف كيف السبيل إلى تحقيقها بشخصيتهأ الهادئة هذه، ومع ذلك، ظلت تحلم وتحلم…

      مضت السنوات والسنوات بسرعة البرق، حتى جاءت نتيجة الثانوية العامة، وحصلت الفتاة على مجموع كبير يؤهلها للالتحاق بكليات القمة. تمنت أن تدخل الجامعة في القاهرة، وتحت رفض والدتها، امتنعت عن الطعام والشراب، وصممت على هدفها، ولكن بدعم والدها الذي طالما شجعها ووقف بجانبها، استطاعت أن تقدم في الجامعة بالقاهرة. يا فرحتها، لأول مرة ستخطو قدميها خارج محافظتها، لا، لأول مرة ستخطو قدميها خارج حدود بيتها. ياله من حلم يسعد القلب، ويطيب الروح، ويرسم الخيالات أمام العين!

      فتاة لا تعي شيئًا في أمور البشر، لا تعرف في حياتها سوى أسرتها وعائلتها المقربة، لم تخرج من مدينتها، لا تهتم سوى بمذاكرة دروسها، ليس لديها اهتمامات شخصية أخرى مثلها مثل البنات في عمرها، كيف لها أن تسافر وحدها إلى محافظة أخرى؟ يا الله! حين أتذكر كيف كان حالها وقتها، أحزن بشدة، وفي بعض الأوقات أتعجب على ما كان عليه وضعها.

      أتذكر منذ عشر سنوات حين ذهبت برفقة والدها ووالدتها للتقديم في الجامعة، ما إن خطت بقدميها باب الجامعة، وسارت خطوات مٌتجهة نحو الكلية، وقف والدها في مكان كلما تمر عليه ذهابًا وإيابًا إلى الآن تتذكر ما قاله لها، في مثل هذا المكان نظر والدها إلى الكلية نظرة مُفعمة بالأمل، وقال لها:”أشعر أنه سيكون لك شأن عظيم في هذا المكان.” ردت والدتها قائلة له:”لا تحلم.” وما إن سمعت الفتاة كلام والدها الذي طالما شجعها، حتى عاهدت نفسها على أن تحقق حلمه، ليفتخر بها تلك الفتاة الخجولة أمام الجميع.

      التحقت الفتاة بالكلية، ومنذ اليوم الأول بدأت تذاكر جميع دروسها، ابتعدت عن التجمعات وتكوين الصداقات، وتنحت جانبًا وانشغلت بدراستها، حتي أنها تكاد لا تعرف وجوه دفعتها، فلم تصادق سوى المُتميزين الذين يجلسون بجانبها في الصف الأول داخل المحاضرة. مرت الأيام ومرت السنوات لا أدري كيف مرت بتلك السرعة، ومع ذلك، كان النجاح الوحيد لها في كل عام هو أن تُرتب في المراكز الأولى على الدفعة، وتذهب إلى والدها ليكافئها، وتستمد فرحتها من فرحته.

      مضت الأعوام الأربعة في لمح البصر، حتى جاءت سنة التخرج، واصطدمت الفتاة بالواقع، وراودها القلق: كيف لها أن تتخرج، أنها لا تدرك شيء في الحياة سوى المُذاكرة، كيف لها أن تجد عمل بسهولة وهي لم تكون علاقات اجتماعية تساعدها في ذلك، كيف ستكون حياتها بدون هدف يشغلها وتسعى لتحقيقه وتستمد منه طاقتها، كيف وكيف وكيف وكثير من التساؤلات التي عكرت صفو حياتها وشغلت بالها. إلا أن يد الله كانت تعمل في الخفاء وتدبر لها حالها. ففي العام الجامعي الرابع، طلب القسم من أوائل الدفعات أن يتقدموا للمشاركة في منحة دراسية إلى الخارج لمدة شهر، تقدم أوائل الدفعات الأربع للمنحة، ولكن من أجل النصيب- ومن واقع تجربتي السفر هو عامة نصيب- وافقت الجامعة في الخارج على اختيار الأوائل الثلاثة من دفعة السنة الرابعة. يا الله! كيف هذا! تعجب الجميع كيف للجامعة أن تختار من هم على وشك التخرج؟ يا له من تدبير لمن لا حيلة لهم! أمل جديد يدق قلبها، حلم جديد ستعيشه، عالم جديد ستراه، فخر جديد سيزيد من مكانتها أمام عائلتها، ياااه! تتذكر كل هذا كأنه حدث بالأمس ولم يمر عليه سنوات.

      استعدت الفتاة للسفر، ولم يبخل عليها والديها بما يملكون من أموال تعينهم على غدر الزمن. كانت المنحة الدراسية للبلد الأجنبي شاملة النفقات بما في ذلك الإقامة والمعيشة والدراسة والتنقلات الداخلية والمصروف الشخصي والمأكل والمشرب، إلا فيما عدا تذكرة الطيران الدولي، فقد كانت تذكرة الطيران الدولي في هذا الوقت تبلغ ستة آلآلاف جنيه مصري، دفعها والدها عن طيب خاطر رغم ضيق يده، هذا بجانب المصاريف الشخصية، فبطبيعة الحال، السفر إلى دولة أجنبية يحتاج إلى بعض الأموال لمواجهة ما قد يحدث من ظروف هناك، ولهذا حولت لها عائلتها مبلغ مالي كبير، في ذلك الوقت تكبدت عائلتها أموال كثيرة من أجل سفرها، بيد أنه كان حلمهم سعادتها. نسيت أن أقول لكم، لا تظنوا أن عائلتها تركت بنت مثلها تسافر إلى الخارج دون الاطمئنان على الظروف المُحيطة بها، من حيث التأكد من خطاب الجامعة الموجه للسفر والاستفسار عن زملائها وذويهم، فلقد كانت أسرتها تثق بها ثقة كبيرة، وتعلم ما هي عليه من طيب خلق.

      أود أن أخبركم عن صحباتي اللاتي سافرنا معي: بنتين من أفضل البنات في عيني، من أوائل الدفعة، من عائلات مُحترمة وشديدة التدين، لم أشعر معهما بالخوف، ساعداني كثيرًا في مواقف عديدة، كنت أشعر معهما بروحي وكأنهما جزء مني، لا يختلفان عني في طبائعهم كثيرًا سوى في فهمهم للحياة، ذوي خلق وخليقة. إنهم أعز أصدقائي إلى الآن، أتواصل معهما دائماً، أذهب إليهما لأبث شكواي وما يضيق به صدري، فلا أجد منهما سوي صدر رحب واحتواء كبير.

      أنقضت أشهر السفر، وعادت الفتاة إلى أرض الوطن. وما لبثت أن استعدت إلى التقديم لامتحانات الدبلومة، وعلى الرغم من عدم تيقنها من إن كانت ستحقق حلمها في أن تعمل بالمكان الذي أحبته أكثر من أي شيء آخر أم سيضيع حلمها إلى الأبد، لكنها تحت أي ظرف من الظروف، كانت تعشق الدراسة، تعشق الكلية، وتعشق الجامعة بوجه عام.

      بدأت الفتاة دراستها في الدبلومة بعد التخرج، ولم تتوانى في البحث عن عمل في الوقت ذاته، ولكن من أين لها أن تجد عملًا، فهي لا تعرف أفراد دفعتها، ولا تعرف أماكن العمل، ولم تكون علاقات اجتماعية تعينها في ذلك، ولكنها كانت على ثقة بأن الله لن يضيعها. وقد كان الله عند حسن ظنها، ففتح لها باب عمل من حيث لا تدري، مُعجزة فعلًا، جاء العمل بمُعجزة، لن أتطرق إلى تفاصيلها حتى لا يطيل الحديث. عملت الفتاة بعد أربعة أشهر من تخرجها في أحد المكاتب بالقاهرة، فكانت تذهب إلى الجامعة لحضور المحاضرات، وتعود إلى عملها وقت الظهيرة، وتسافر إلى محافظتها بعد انتهاء العمل يوميًا، ومع أنها كانت تتقاضى راتب يٌقدر بسبعمائة جنيه مصري حينها، إلا أنها كانت سعيدة بهذا المبلغ سعادة غامرة، فلأول مرة سيكون لها أموال خاصة، وستتحمل مسؤولية نفسها، وستترفع عن طلب مصروف من والدها. لا تتعجبوا من فرحتها بهذا المبلغ الزهيد، فبالنسبة لها كان كنز ثمين. فهي لم تكن تنظر إلى المال بقدر ما كانت تنظر إلى القيمة العملية والمعنوية في تحقيق ذاتها وهدفها.

      تنقلت الفتاة من عمل إلى عمل، ومن مكان إلى مكان، ومن مجال إلى مجال، فلا عجب، فهذا الوجه البريء يُخفي خلفه خبرات عملية ودراسية مٌتميزة. انتقلت الفتاة بعد ذلك للعمل في مصنع مشهور براتب أعلى من العمل السابق له يقدر ب ألف وخمسمائة جنيه مصري، لا داعي للدهشة، فهي كانت ولا زالت وستظل ساذجة. وبعد فترة من الوقت، انتقلت إلى عمل آخر في شركة أجنبية بمدينة أخرى براتب أعلى يصل إلى 2500 جنيه مصري، نعم مثلما قرأتوا مدينة أخرى. لم تكن تجربة السفر إلى مكان آخر والعيش مع أناس آخرين سهلة عليها، فهي لم تعتاد التجمعات البشرية، فكيف لها أن تتعامل مع مُختلف الفتيات باختلاف طبائعهم داخل معسكرات السكن.تجدر الإشارة إلى أن الشركات في تلك المدينة الأخرى كانت مُصممة على النموذج الغربي، بمعنى أن الشركة تكون محاطة بسور كبير يضم بداخله المبنى الإداري، ورشة التصنيع، المبنى السكنى، المطاعم، والبنوك. ولكنها لا سبيل أمامها إلا أن تسعى وتسعى لتنحت أسمها وسط الصخور . كان هذا هو الفصل الدراسي الأخير في الدبلومة، وبعدها سيتاح لها تسجيل رسالة الماجستير خاصتها، تحملت الفتاة جهد السفر من بيتها إلى منطقة عملها بالمدينة البعيدة، ثم الذهاب إلى كليتها لحضور محاضرتها مرتين بالأسبوع، وبعد ذلك العودة مساءًا إلى منطقة عملها، لكي تباشر ثاني يوم العمل. وهكذا ظلت على هذا الوضع تسعة أشهر. هذا بجانب المتطلبات البحثية والدراسية. والجدير بالذكر أن، الجميع كان يراعي كفاحها، فقد وضع الله محبتها في قلوب جميع الناس، فكان الجميع يساندها ويمنحها فرصة الدراسة بجانب العمل، لما وجدوا فيها من طموح كبير.

      مر عامين على تلك الفتاة وهي تنتظر أن تحقق حلمها في العمل بالمكان الذي تجد فيه نفسها، الجامعة بالنسبة لها ليست مكان للدراسة فقط، بل هو مكان للحياة، فهي كالسمكة لا تستطيع العيش بعيدًا عن مائها، وقد كانت الجامعة بالنسبة لها هي منبع المياه.

      تحقق حلمها أيضًا بمعجزة، فكل شيء حدث في حياتها حدث بمعجزة، بتدبير قوة خارقة، بتدبير رب يعرف قلة حيلتها وعجزها. سجلت الفتاة رسالة الماجستير في موضوع بحثي جديد، ومضت عامين ونصف تكتب رسالتها، وتنقش اسمها.

      حتى جاء اليوم المُنتظر والفرحة التي تمنتها طويلًا، يوم مُناقشة رسالة الماجستير للباحثة الصغيرة كما يطلق عليها الجميع، كان اليوم مُميز للغاية مُفعم بالفرح والفخر والثناء على الرسالة والمجهود المبذول، والشكر لوالديها على حسن تربيتها وتعليمها، وحصلت الباحثة على الماجستير بتقدير مُمتاز. وما لبث أن انتهت من تقديم أوراق الحصول على درجة الماجستير، حتى أراد الله أن يخفف عن روحها ويداوي تعبها، فبعث لها بطريقة أشبه بالمعجزة منحة دراسية لدولة أجنبية شاملة التكاليف لمدة شهر كامل.

      لا شك أنها طوال تلك السنوات الطويلة واجهت تحديات كبيرة، سواء على المستوى البدني أو النفسي أو العملي. لا شك أنها طوال هذه السنوات الطويلة وقعت كثيرا، ونظرت حولها تبحث عن يد تدعمها للنهوض من جديد، ولكنها لم تجد، فما كان أمامها إلا أن تشحذ همتها بنفسها لتنتصر في معارك أكبر منها.

      كان الخوف والألم أكبر أعدائها.

      الخوف! وما أدراك ما الخوف! الخوف من المجهول، الخوف من المعلوم، الخوف من ذكريات الماضي، الخوف من إخفاقات المستقبل، والخوف على النفس، والأهل، والأصدقاء، والممتلكات، والخوف من الخوف ذاته، كل مكنونات الخوف معلومة كانت أو مجهولة كانت تقف حائلا أمامها دون المضي قدماً نحو النجاح.

      إن الخوف بأشكاله كافة كان العدو الأكبر لها، فكيف يمكن أن تمارس حياتها وهي خائفة، خائفة من ضياع فرصة، خائفة من فشل محتوم، خائفة من فقدان عزيز، خائفة من أن تبقي وحيدة بداخلها رغم تجمع أكوام من الناس حولها.

      الخوف حالة نفسية معقدة محاطة بشفرات محكمة، لا يستطيع فك ألغازه إلا صاحبه وحده، وهنا كانت تجد نفسها أمام جيش من الخوف العظيم المسلح بمعدات هجومية شاملة، وها هي تقف خائرة القوى مجردة من حيلها الدفاعية وحتي من أحاسيسها الذاتية.

      ولكن هذا العالم بقسوته أجبرها على نزع فتيل الخوف بداخلها، ودفعها إلى التحرر من مخاوفها، لتمضي الآن حرة طليقة، لا تقيدها المخاوف، ولا تسجنها الهواجس.

      الألم، مرضي نفسي روحي ذهني، كله كان يصب في بوتقة الوجع. كانت تعاني وحدها ويد الناس تتساقط من حولها، كانتً تعاني تارة مرضا ينخر في عضمها، و تعاني تارة أخرى وجعا يسكن في روحها، أو ألما يمزق قلبها.

      وحدها في عالم وحدها، لا تجد إنسانا يواسي روحها، وحدها في عالم وحدها، تواجه حياة لا ترى فيها نفسها، وحدها في عالم وحدها، يعتصر قلبها، وتدمي روحها.

      مرت عليها أوقات فيها تتألم، تتألم وبشدة، تائهة داخل نفسها مضطربة، لا تجد مستقرًا لروحها، تشعر بالوجع من قلبها، وبالأسف على نفسها، لا تعلم سبب ما هي عليه، تتداخل عاطفتها مع وجعها، وفرحتها مع حزنها. تتألم، تتألم وبشدة، ضائعة منها روحها، تبحث عنها بين أمواج من الألم، تتصاعد وتتهابط، لكي تستقر على شاطئ الندم. تتألم، تتألم وبشدة، فكل أعضائها تتألم: تتألم روحها، وقلبها، وجسدها، وذهنها، وفوق كل ذلك، تتألم من نفسها. تتألم، تتألم وبشدة، تود لو استطاعت أن تصعد فوق جبل عال تصرخ وتصرخ، ولا يسمع صراخها أحداً، أو تسقط في بحر ثائر يرتفع صوته عن صوت جرحها. وما كان الألم إلا بئرًا من المشاعر السلبية التي أطفئت روحها، وأنهكت جسدها، وشغلت تفكيرها، وأهدرت وقتها.

      وها هي الآن تتقلد أعلى المراكز وتحيا حياة مستقرة.

      لقد أصبح يتهاوى من نظرها كُلّ مَنْ جرحها، كُلّ هؤلاء الذين أحبتهم بصدقٍ، وتعاملت معهم بنية خالصة، ما إن يهدمون جدار محبتها لهم بأفعالهم، حتى ينزوي القلب عنهم رُوَيْدًا رُوَيْدًا، ويضعهم في زاوية الإهمال.

      لَمْ تعُدْ كما كانت، يا ليتها تعد كما كانت، لتتغافل عن زلاتهم بحقها، وتتناسى تفتيتهم لذرات قلبها. هُمْ وحدهم الذين أخلوا بشعرة الوَدٌّ المنعقدة بينهم، هُمْ وحدهم مَنْ أفقدوها طاقتها، حتّى صارت روحها شبه غائبة.

      قد يحدث وأن تعود إليهم وتتعامل معهم من جديدٍ، غير أَنِّها لا تعود بكامل حماستها، لا لوم عليها، فهم مَنْ حطموا بداخلها نظرات ونظرات لهم كانت تطاول السماء من شدةِ بعدها، ولم يتركوا لها سبيل سوى أن تتعامل فقط لحتمية التعامل، وبداخلها ثَمّة حاجز يطوقها بأسوارٍ من الحذرِ.

      فكم تتمنى أن تعود الروح التائهة لتُرمِّم كل هذه الخدوش الدامية.

Viewing 0 reply threads
الرد: ندا
المعلومات الخاصة بك:

إلغاء
Start of Discussion
0 من 0 منشورات حزيران / يونيه 2018
الآن